سُنن النَّصر في القرآن (الجزء الاول)( د. أحمد نوفل ) القرآن العظيم كنـزنا الذي لا ينفد عطاؤه؛ فخزائن ألفاظه ملأى بالمعاني السامية، وما عليك إلا أن تفتح هذه الخزائن لتُطالعك الجواهر الحِسان من معاني القرآن، مما يُسعد الإنسان فرداً ومجتمعاً وأمة في الدنيا والآخرة.
وموضوعنا هذا يتعلق بالسنن التي بثَّها الله تعالى في ثنايا كلامه. والسُّنن معناها: القوانين التي تنتظم أمراً معيَّناً؛ فسنن التغيير، وسنن النصر، وسنن العزة، وسنن الوحدة والفرقة، إلخ ..
ومن عظيم إنجازات القرآن في أمة القرآن: إنشاء العقل السُّنَني، بدل العقل الخرافي أو الأسطوري أو الخَوارقي الذي كان سائداً قبل القرآن.
ومعنى العقل السنني: أي العقل الذي يبحث في عِلل الأشياء وتخلُّقها وتطورها وسيرورتها، وازدهارها أو اندثارها، بأسلوب علمي وعقلي موضوعي.
العقل الذي يتعامل مع المرض مثلاً، بقانون السبب والمسبب والبحث بناء عليه عن علاج، فلا لجوء إلى المخرقة والشعوذة وما إليها. العقل الذي يُسخِّر الكون المسخَّر في خدمة الإنسان لخدمة الإنسان. وبالنظر - الذي أمرنا الله به في الكون - نكتشف أنه بُني على قوانين منضبطة جدّاً، بل إن الحساب يُضبط بها وعليها: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بحُسْبَانٍ} [الرحمن:5]. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2].
وإذا كان الجانب المادي من الكون، وهو الأقل، مُنظَّماً أدقَّ تنظيم، قائماً على قوانين، فهل تتوقع أن يكون الجانب المعنوي والاجتماعي، وهو الأجلُّ، أفيكون خبط عشواء بلا قانون؟ هذا ما لن يكون.
بل أقول: إن القانون المادي الكوني قد ينخرم، ولكن القانون المعنوي الاجتماعي لا ينخرم، من هنا قال الله عن الكون المادي: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63].
وقال عن القانون الاجتماعي: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا } [فاطر: 43]. لكن البشر لا يَرَوْنَ القانون الاجتماعي بنفس العين من الجِدِّية التي ينظرون بها إلى القانون الطبيعي الكوني المادي. بل إنهم - مؤمنين وكافرين - يستعجلون السنن الاجتماعية: الكافرون استهزاءً، والمؤمنون استبطاءً للنصر! ولذلك وصف الله الإنسان، كل النوع، بالعجلة، حين قال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37]. وقال: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11].
سنن النصر: لقد جعل الله للنصر قوانين صارمة قاطعة جازمة حاسمة، لا تَحيد ولا تُحابي أحداً، ولو حابت أحداً لحابت محمداً صلى الله عليه وسلم وقد ترك أُحُداً بها سبعون من القتلى، ومثلهم جرحى، وآلامٌ جِسامٌ كادت تهدُّ الأجسام.
وأول القوانين والسنن: أن نعلم أن الدنيا مذ أبى إبليس السجود انقسمت إلى معسكرين: جند الله يقودهم الرسل، وجند الباطل يقودهم إبليس، والمعركة والعداوة حتمٌ مقضيٌّ بين الفريقين، والنصر فيها حَتمٌ ضروري لجند الإيمان: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].
ومن سنن هذا الصراع بين الحق والباطل، ومن قوانينه: سُنَّة التدافع، ومداولة الأيام، ولئن كان جَرَيان الماء هو أساس صلاحه، ولولا تدافع الموج، ما تطهَّر الماء، ولتأسَّن، ولولا تدافع المجتمعات لتأسَّنت الأرض: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251]. وقد تكررت هذه السُّنة مرتين في سورة البقرة وسورة الحج؛ لتأكيد أهميتها.
ولقد قرأت للكاتب والفيلسوف والمؤرخ الفرنسي (غوستاف لوبون) في كتابه: "السنن النفسية لتطور الأمم"، ما يكاد يكون استنساخاً دقيقاً للآية الكريمة. يقول ما معناه: "إن الحرب ليست شرّاً كلها، وإن ضريبة السلام قد تكون أكثر تكلفة من ضريبة الحرب، وإن المجتمعات إن لم يحصل بينها التدافع من خلال الحروب وقعت في حالة من الركود أشبه بالموات". (أ.هـ).
أقول: ومن هنا كُتب القتال على المؤمنين في الكتاب العزيز ليدفعوا عن أنفسهم قانوناً حتميّاً هو: التدافع بالقوة، فمن ملك القوة لن ينتظر الآخرين حتى يمتلكوها، بل سيُسارع إلى استخدامها لفرض إرادته عليهم، ولذا قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
إن السلام حُلُم منشود، والأمم السادرة في بحر الأماني هي التي تفترض هذا الخيال على الواقع الحتمي وهو التصادم، من هنا كان الإعداد والاستعداد ضرورة لدفع العدوان لا لإيقاع العدوان.
ومن سُنَّة الله في الصراع بين الحق والباطل: أنَّ الباطل يبدأ قويّاً منتفشاً متطاولاً، ويبدأ الحق متواضع الإمكانات، محدود القدرات؛ مما يجعل الرائي لا يتوقع النتائج، ومما يُغري أهل الباطل بالتمادي، وتحدي الحق، {لِيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42]. ليحتدم الصراع، وتكون القاصمة للباطل، ويكون النصر المؤزر في نهاية الصراع للحق، والجولة الأخيرة دائماً له في صراعه مع الباطل وقُوى هذا الباطل. على أن الباطل الزَّهُوق له سُنَّة في زهوقه، هي ما أُسمِّيه أخذاً من النص القرآني: "قطع الأطراف" وصولاً إلى المحق الكامل، والإنهاء الشامل للباطل. واستمع إلى النصوص بهذا الخصوص:
يقول الله تعالى في سورة آل عمران (سورة غزوة أحد): {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:127]. وفي سورة الرعد التي من محاورها: تجلية صورة الحق والباطل في صورة الزبد والماء، والحق الباقي، والباطل الزائل الذي يذهب جُفاءً، في هذه السورة قال الله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41].
وفي سورة الأنبياء قال الحقيقة عينها والسُّنَّة نفسها والقانون ذاته: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44]. إن هذا النص ليس نصّاً في الإعجاز العلمي كما حاول البعض أن يفسِّره، بل هو أعظم من ذلك؛ إنه قانون تفكُّك الحضارات، وقانون إمحاء الباطل.
إن الامبراطوريات تتفكك بانتقاصها من أطرافها، ولذلك تحرص الامبراطوريات على توسيع الأطراف وتمُّددها وزيادتها؛ لأن في ذلك حماية للقلب أو للمركز؛ فأمريكا الآن تقاتل في أفغانستان حماية لواشنطن كما يزعمون، فهي تحرص على تباعد وتمدد وتوسع الأطراف حماية للمركز. ولكنَّ وَهْنَ القلب سيكون عن طريق النَّزف في الأطراف.
إنه قانون قطع الأطراف. وكما أن نمو الأطفال لا يلحظه أهلوهم لبطء تدرجه، وكذلك دبيب الشيخوخة لا يلحظه صاحبه ولا مجاوروه ومعايشوه إلا بعد تراكم السنين. كذلك ضعف الحضارات، يدب دبيب الوهن والتراخي بطيئاً، وغالباً غير محسوس ولا ملموس، فإذا تراكم بانت آثاره وتجلَّت لكل ذي عينين.
وأُشبِّه ذلك بحلقات مصارعة الثيران في إسبانيا. يبدأ الثور (أو الحضارة) بكامل طاقته مندفعاً مهتاجاً يقطع أرض الملعب بعنفوان وقوة، وتبدأ الخناجر تنغرز في ظهره، ويبدأ النـزف، ويبدأ دبيب الوهن في الأوصال إلى أن يخرَّ صريعاً على الأرض أو مُنهكاً هَدَّه الإعياء. كذا الحضارات.
فيا معشر المؤمنين، لا يغرنكم ما يبدو من قوة الباطل وعربدته، ولا يُضعِفنَّ عزمكم ما ترون من تكالب الباطل على الحق والضعف الظاهر لهذا الحق، إن وراء الظاهر باطناً آخر وحقيقة أخرى: أن الحق منتصر ظاهر، وإن بدت الأمور تشير إلى عكس هذا{والله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21].