وتمضي أيامه بدون عبر أو عظات، أو بدون وقفات أو مراجعات
أما العبد المسلم يعتبر بمضي السنين، وتقدم العمر، ويجعل ذلك مصدرا للعظة والاعتبار، يبين ذلك قولُ الحسن البصري رحمه الله:
"يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك".
فما أحوج المسلم لوقفة لمراجعة الذات، ومحاسبة النفس، بالوقوف منها موقف التاجر اللبيب الذي يحدد لنفسه زمنًا معلومًا، ينظر فيه إلى ربحه وخسارته، يبحث عن الأسباب، يتأمل في الخطأ والصواب.
فالمحاسبة توقف المرء على مواطن النقص
ومواضع الخلل
فإذا صدق في العزم
وخلصت النية
واستبان الطريق
وصدَّق ذلك كلَّه العمل
جاء عون الله بمدد لا ينفد
فأورث حسن العاقبة
وتبدلَ الحال، وبلغ المراد.
ولذا كانت العناية بهذه المراجعة والحرص على هذه المحاسبة دأبَ أولي العقول و النهى، وديدن المتيقظين، ونهج الراشدين، وسبيل المؤمنين، لا يشغلهم عنها لهوُ الحياة، وزخرفها وزينتها، فلا يقطعون أشواط الحياة بدون توقف أو محاسبة؛ وذلك للوصول إلى التغيير المنشود:
فالمحاسبة فيها سعيٌ حثيث للوصول إلى تصحيح المسار، وتقويم المعِوج، لتذليل الطريق أمام التمسك بالاستقامة والعمل على ملازمة التقوى، والحرص على الثبات حتى الممات.
ولا يقوم بذلك إلا من نجح في إصلاح نفسه أولا ثم الآخرين كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:" ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك). " رواه الإمام مسلم.
فإذا كان العبد مسؤولاً ومحاسبـًا على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(الإسراء/36) فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب، عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
إن النعم التي يتقلب الناس فيها، والصوارف التي تحيط بهم تجعلهم ينسون الحساب، ويغفلون عن ذكر يوم المعاد، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:1،2]. فلنذكر قول الله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) الكهف 49
كيفية علاج النفس بالمحاسبة:
إن علاج استيلاء النفس الأمارة على قلب المؤمن يكون بمحاسبتها ومخالفتها، والنتصار عليها ومجاهدتها، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:
" حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية "(رواه الترمذي).
وقال الحسن:
" المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ".
قال مالك بن دينار:
" رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟!، ألست صاحبة كذا؟! ثم زمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدًا ". فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها
فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه. قال الحسن - رحمه الله -: " رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره تأخر ".
وأما النوع الثاني:
فمحاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباحٍ لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحـًا، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
وإذا أهمل العبد نفسه وترك محاسبتها واسترسل مع رغباته فإن هذا يؤوي به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور يغمض عينيه عن العواقب ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها، ولو تدارك أمره أو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد.
وجماع ذلك:
أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر نقصـًا تداركه إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئـًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية كما في الحديث الصحيح: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها بما تكلم به أو مشته رجلاه أو بطشت يداه أو سمعته أذناه ماذا أرادت بهذا؟ وَلِمَ فَعلته وعلى أي وجه فعلته.. قال الله تعالى: